2017/09/15

صدور رواية (سماهاني) / لعبدالعزيز بركة ساكن


يعود السودانيّ عبد العزيز بركة ساكن في روايته "سماهاني" إلى القرن التاسع عشر ليصوّر منطقة تعدّ من المناطق التي ظلّت بعيدة نسبيّاً عن تطرّق الرواية العربيّة إليها وتناول بعض تفاصيلها التاريخية الهامّة، في منطقة تكاد تكون منسيّة بدورها للعرب، ولا تبدو مثيرة لاهتمامهم في الزمن المعاصر، وهي زنجبار الواقعة في قلب القارة السمراء، والتي يصفها بأندلس إفريقيا الضائعة. 

يتناول ساكن، المقيم في النمسا منذ سنوات، الوجود العربيّ الذي تمثّل بالوجود العُماني الذي كان احتلالاً لزنجبار، وتسلط السلطان الذي كان يسبغ على نفسه، كغالبية الديكتاتوريين، صفات مقدّسة، ويبتدع لنفسه نسباً مقدّساً يربطه بالنبيّ سليمان، ويزعم الخلود ويتعاطى مع رعيّته على أساس الفرادة والتميّز من منطلق القوّة والسطوة، ولا يكترث لأحوالهم، بل يتمادى في غيّه وإجرامه وينكّل بهم هناك شرّ تنكيل. 

ديكتاتور بائس
يضفي ساكن على هيئة الديكتاتور صبغة كاريكاتيرية، يظهره بمظهر البائس غير القادر على تأدية أبسط واجباته تجاه نفسه، برغم ما يصدّره من رعب وعنف وإجرام تجاه الآخرين، يبقى أسير غرائزه الحيوانية التي تودي به إلى الهلاك، وتوقعه في شرور إجرامه الذي كان يقترفه بشكل متعسّف يعيش من خلاله لذّة القتل والإبادة التي توقع به تالياً في الحفرة نفسها.

يرسم ساكن عالماً مرعباً يسوده الفساد والدمار والإجرام، عالم العبوديّة التي كانت مأساة ذاك العصر والعصور السابقة، لما لها من تداعيات كثيرة لا تستدلّ إلى تهدئة أو توقّف، ذلك أنّ الأجيال التي عانت ظلم العبوديّة ظلّت حاملة في وجدانها لعنة الانتقام من أولئك النخّاسين والمحتلين الذي دمّروا تاريخ البلاد وشرّدوا أهلها وأفنوا وأبادوا قبائل عن بكرة أبيها.

يتغلغل بركة في أعماق عدد من العبيد الذين طاولتهم جريمة الإخصاء، وكيف أنّهم عانوا مأساتهم ولم يتمكّنوا من التأقلم معها، ولم تفلح محاولات تطويعهم الدائمة وإرضاخهم للإذعان والتكيّف مع وضعهم الجديد، وكيف أنّهم ظلّوا مسكونين بشعور النقصان الذي حفر عميقاً في أرواحهم، وكانوا رهائن البتر الذي لم يطاول أعضاءهم فقط، بل شوّه أرواحهم أيضاً، كما كانوا مضطرين إلى ابتكار أساطير توهمهم أنّهم سيكمولون نقصان أرواحهم في العالم الآخر، وستعود إليهم أعضاءهم المبتورة ولن يكونوا مخصيين حينها، بل سينعمون بحياة طبيعية بعيداً عن ذلّ العبوديّة وقهر الخدمة والخصي. 

يتربّح السلطان من تجارة الرقيق، يؤسّس محمية العبيد التي قوامها الظلم والإجحاف والتمييز والتقسيم الطبقيّ الشائن، والممارسات القذرة من قبل أولئك النخاسين وطبقة السادة وصائدي البشر ضدّ المواطنين المستعبدين، وتحويل بلادهم الموصوفة بالجنّة إلى جحيم لهم، تكون جنّة للآخرين وجحيم أبنائها، وهنا المفارقة التي يشتغل عليها ساكن، ويحرص على اقتفاء بدايات انبثاق الشعور الوطنيّ لدى المضطهدين المتفرّقين الذين يبقون في غاباتهم بعيداً عن مكر السياسة والتحالفات والقوى الاستعمارية التي تبقيهم أسرى وعبيداً في بلدهم. 

تأسر قوّات السلطان عدداً من المواطنين وتحوّلهم إلى عبيد، يقوم السلطان بالإشراف على إخصائهم، ويختار منهم مَن يخدمونه في قصره، ومن سيخدمون ابنته الوحيدة في قصرها الذي يتحول إلى قنصلية للإنكليز لاحقاً، يقع الاختيار على كبير قوم وابنه بعد تجريدهم من أعضائهم وبترها بطريقة وحشيّة، ومن ثمّ تطويعهم بالإكراه والتعذيب لمضان صمتهم وخدمتهم وطاعتهم وولائهم. 

يكون إخصاء الطفل جزئياً، يبقى مسكوناً بشهوة لا تهدأ، لكنّه لا يستدلّ إلى إتمام العملية الجنسيّة، ويقع في فخّ علاقة مع سيّدته الأميرة التي يقع في أسر حبها، وهي في الوقت نفسه تبادله الحب، وتستمتع برفقته وملامساته، وتنفتح عليه، ولاسيما أنه يبقى في خدمتها لسنوات، يتعرّف إلى جسدها بأدقّ تفاصيله، ويساعدها على تحرير طاقاتها وشهواتها، ويبحر معها في لعبة الجنس الذي يبقى منقوصاً لأنّ الإثنين يعانيان من مشكلة بتر أعضائهما الجنسيّة. 

ابنة السلطان تعيش في قصرها منتشية بحياتها الباذخة، ترضخ لرغبة والدها بالزواج من أحد التجّار المتنفّذين، تكتشف معه لذة الجنس، لكنها تحقد عليه نتيجة مجونه مع النساء، وتسعد بموته في رحلة من رحلاته البحرية، ثمّ تعيد اكتشاف جسدها وشهوتها مع عبدها سندس الذي يتدرّج في تولّعه بها، وملامساته العابثة المدروسة لجسدها رويداً رويداً وصولاً لمرحلة المكاشفة والمصارحة والاعتراف، ثمّ تبادل الحبّ والوعد بالحماية والبقاء معاً إثر غارة عدد من الثوّار على قصرها بالتواطؤ مع سندس، ومسعاهم لحيازة أسلحة تمهّد لهم طريق الثورة والحرّية.

إخصاء وغفران
يقع السلطان بين براثن الإنكليز الطامعين بالبلاد، وذلك بعد إخصائه بطريقة مثيرة على أيدي عبيده الذين كان ينال منهم، وكان يفترض أنّه أرسلهم إلى السجن للموت فيه، ويجد نفسه راضخاً لقوّة أشدّ بأساً وجبروتاً وطغياناً منه، يبدأ بالاعتراف بفشله في إدارة البلاد وتطويرها من مختلف النواحي، والكارثة التي حلّت على طبقة المصنّفين سادة، ورزوحهم في جهلهم وتخلّفهم، وعدم قدرتهم على مواكبة مستجدّات العصر، والاعتماد المطلق على العبيد في الأعمال والمهمات الحياتية جميعها، لدرجة الفشل التامّ الذي شلّ الجميع حين إعلان القوّات الإنكليزية تحرير العبيد وانتهاء عصر الرقّ والاستعباد بشكل تمثيليّ مهيّئة بذلك لاستعمارها واستغلالها بطريقتها الاستعمارية الحديثة. 

"المحب ليس لديه وازع"، يتحوّل هذا المثل السواحيليّ إلى تميمة للشخصيّات الهاربة من مصيرها، العالقة في قيود ماضيها، المرغمة على دفع ضريبة أفعال غيرها، ويتحوّل بصيغة من الصيغ إلى "المنتقم ليس لديه وازع"، ذلك أنّ الانتقام يحوّل المسكون به إلى قوّة هادرة للفتك بمَن نكّل بأهله وقتلهم ويتّمهم ودمّر أرضه وحياته. 

النهاية التراجيديّة التي يختم بها بركة ساكن عمله تخلّف أسى مضاعفاً، ذلك أنّ جثّة الأميرة الملقاة على الشاطئ بعد اغتصابها من قبل أحدهم، وكان يفترض به إنقاذها، لكنّه أذعن لنداء الانتقام الذي يقضّ مضجعه، وكان أن دخل في مناجاة مع نفسه ومعها قبل إقدامه على جريمته بحقّها، ومعرفته بأنّها بريئة من أفعال أبيها الإجراميّة، لكنّه لم يستطع لجم غضبه وتحسّره على أمّه التي اغتصبها والدها السلطان، وأهله الذين قتلهم، بينما ظلّ رضيعاً أنقذته كلبة أرضعته، ولم يفلح في كبت الوحشيّة التي تغوّلت في كيانه ودفعته للتنكيل بها بتلك البشاعة. 

"سماهاني" وتعني طلب الصفح، الاعتذار، الغفران، العفو، المسامحة في اللغة السواحيليّة، تتشعّب في الرواية معنى وحضوراً وتتوزّع على الشخصيّات، كلّ شخصيّة تشعر بأنّها مدينة باعتذار لأخرى، وفي الوقت نفسه مدينة بالاعتذار لتاريخها ومكانها، وفي عالم يفقد فيه الاعتذار معناه، ولا يستدلّ ضحاياه إلى أيّ طريقة للصفح عن بعضهم بعضاً يكون الانتقام سيّد الحياة نفسها، ورسول القتل والحقد والاستعداء الدائم. 

يحيل الروائيّ طلب الصفح والعفو إلى القوّات المحتلّة لإفريقيا، يرمز إلى ضرورة أن تتحلّى بالجرأة للاعتراف بجرائمها هناك، وتسعى إلى طلب المغفرة من أبناء تلك البلاد، عسى أن تمهّد لبداية تأريخ جديد مختلف عن ذاك الملعون بكوارثه وخيباته وهزائمه وجرائمه بحقّ الناس هناك. 

يكتب ساكن بنفَس ملحميّ عن مجتمع سواحيلي تعرّض لكثير من محاولات التشويه والتدمير على أيدي الغزاة، وواقع أنّ كلّ محتلّ حاول الدعوة لدينه ونشره بينهم، وإجبارهم على اعتناقه، ومحاولة إقناعهم أنّه الملاذ الوحيد لهم، فكان المحتلّون البرتغاليّون وبعدهم العُمانيون الذين أخرجوهم من هناك، ثمّ الإنكليز وغيرهم من الأوروبيين الطامعين بثروات تلك البلاد وأبنائها. 
يشير صاحب "مسيح دارفور" إلى نهاية عصر الرقّ الذي افتتح بنوع جديد من الاسترقاق، وهو استرقاق الاستعمار الحديث المتقنّع بأقنعة الحداثة وحقوق الإنسان وتحرير العبيد، والماضي في سبيله إلى نسف بنية البلاد ونهب ثرواتها، وإعادة تجميع القوى في أيدي قوى تابعة لها تضمن استمراريّة مصالحها ونهبها الدائم. 

أثناء قراءة "سماهاني" يستعيد القارئ عوالم رواية "قلب الظلام" للإنكليزي جوزيف كونراد (1857 – 1924)، كما يستعيد أجواء رواية "حلم السلتيّ" للبيروفي ماريو بارغاس يوسّا الذي صوّر الفترة نفسها تقريباً ولكن في منطقة إفريقية أخرى، هي الكونغو، واقتفى جانباً من تداعيات صراع القوى الاستعمارية التي تمثّلت بالبلجيكيين وبعض الأوربيين الآخرين هناك، وتعاملهم المجحف مع السكّان الأصليّين واستغلالهم وثرواتهم لخدمتهم ومصالحهم الاستعماريّة، وكان ذلك من خلال حكايته لسيرة الدبلوماسيّ الأيرلنديّ روجر كيسمنت (ولد في 1864 في دبلن - وأعدم العام 1916). 


(*) الرواية من منشورات مسكيلياني، تونس 2017.