2016/09/23

(منفستو الديك النوبي) لـ بركة ساكن: العودة للعوالم المضيعة

منفستو الديك النوبي لـ بركة ساكن: العودة للعوالم المضيعة


عاطف الحاج سعيد 
(عند مكانٍ يعرفه جيِّدًا في حياته السابقة، عند جزيرة «ناوا» وهي ما يُطلق عليها «جزيرة الروح» أو «واحة الروح»، ويعرف عنها حكاياتٍ كثيرةً وأساطير يشيب لها الولدان. هبط به الديك، انبثق في وسط الجزيرة جبل شامخ، وفي جانبٍ منه بوابةٌ بدت كما لو كانت بوابة قصرٍ عظيم، انفتحت البوابة مصدرةً صوتًا مثل هزيم الرعد، وعبرها دخلا، كان يمشي على رجليه، وهو عارٍ تمامًا، يتقدَّمه الديكُ، الذي يمشي في زهوٍ وخيلاء مثل طاووسٍ مغرور، كانت رياشه تلمع وتتلوَّن وتبدو بأشكال غريبة، وفي مرحلةٍ قادمةٍ انتصب الديكُ، وصاح صيحته تلكَ المُرعبة، التي يعرفها «فتح الله» تمامًا، وكانت تفجِّر مكامن الرعب فيه في حياته السابقة، الآن لا تعني له شيئًا، ولم تحرِّك فيه أية مشاعر، كانت كأن لم تكن. ربما لأن الموتى لا يخافون. ودار الديكُ مثل مروحةٍ عملاقةٍ من الريش، فتبعثرت رياشه في شكل عاصفةٍ ملوَّنةٍ لتغطِّي المكان كله...) 
منفستو الديك النوبي _ بركة ساكن 
بهذه اللوحة التي ترد في السِفر الأول من اسفار الرواية (سِفر الملوك) والتي يمتزج فيها الواقع بالاسطورة، وهي لوحة سينمائية مليئة بالحركة والإدهاش والإبهار، يمسك الروائي عبد العزيز بركة ساكن - بحرفية معهودة عنه-  بقارئه الذي سيلهث حتماً خلف السطور مستمتعاً بالمعالجة الفنية الروائية الرفيعة التي يقدمها بركة ساكن لثيمات وشخصيات روايته الجديدة (منفستو الديك النوبي). إنها آخر الأعمال الروائية للروائي بركة ساكن والتي ستصدر قريباً عن دار نشر تونسية. فيها يواصل بركة ساكن مغامراته السردية الشائكة. تدور احداث الرواية في جو فانتازي مبهر وبها يقدم بركة ساكن مقاربته السودانية للواقعية السحرية.
تحتشد الرواية بالشخصيات التي تتساوى تقريباً في أهميتها داخل الرواية، كل الشخصيات هي شخصيات رئيسية. مما يجعل من الصعب القول أن الشخصية الفلانية هي الرئيسة وبقية الشخصيات تستخدم كداعم لها. 
يقدم بركة ساكن الشخصيات التي يحتشد بها حي زقلونا عبر محاور سردية. كل مجموعة من الشخصيات تمثل محور سردي مكتمل ومفتوح في نفس الوقت عبر نفاج صغير على المحاور السردية الأخرى. 
ان البطل في هذه الرواية ليس هو جبريل كيري ولا فنح الله فراج  ولا غيرهم من الشخصيات التي تحتشد بها الرواية، البطل في هذه الرواية هو المكان. والمكان هو (حي زقلونا) فضاء المهمشين الكبير في عاصمة البلاد الكبيرة " كانت «زقلونا» في تلكَ الأيام منازل عشوائية من الخيش والكرتون والمشمَّع والقش، تزيلها السلطات نهارًا، ويُعيد بناءها السكانُ بالليل، إلى أن تعبت المحلية وقامت بتخطيطها وبيعها بأسعار زهيدة لآدميين فقراء سيطروا عليها بوضع اليد والإصرار والمماطلة". تضم زقلونا في رحابها مهمشي المدينة الكبيرة، تعيش فيها ماجدة بائعة الزلابية وجبريل بائع اللحمة الكيري وأنور سيدنا صانع السيوف والسكاكين وشيخ عبد الرحيم المعالج البلدي وكل أولئك الذين قدموا من الهامش للمركز الذي استقبلهم بغير ما ترحاب. 
تتناول الرواية كثير من الثيمات: الظلم الاجتماعي والتهميش ووضعية المراة في مجتمع متخلف والفساد والحرب والسلام والنزاعات القبلية، انها ملحمة روائية تهجو الفساد وسرقة كنوز البلد بعشوائية بليدة. 
يعود بركة ساكن، بعد مُفارقته لسير المهمشين والمضطهدين في السودان في روايته الأخيرة (الرجل الخراب)، يعود في روايته الجديدة ليجتر بحنين متأمل عوالمه الُمضيعة من منفاه في مدينة سالفدن النمساوية. وبعودته هذه يقدم لنا رواية سيُنظر لها حتماً على انها من أهم الأعمال الروائية السودانية والعربية.  ستبقى هذه الرواية حاضرة في الذاكرة الأدبية لروعة وجمال هندستها الفنية وللغتها العظيمة وللجهد الادبي الكبير الذي بذله بركة ساكن ليقدم لنا عملاً بمذاق خاص ونكهة مميزة!